كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب إيثار الحق على الخلق في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه:
وأما الأصل الثاني وهو السمع فهو اختلافهم في أمرين:
أحدهما: في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم.
وثانيهما: اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه.
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولًا، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ. وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق، فإن العوائد التجربية، والأدلة السمعية، دلت على امتناع الإتفاق في تفلصيل الحكم، وتفاصيل التحسين والتقبيح، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء، كما قال تعالى حاكيًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69]، وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود، وموسى وهارون، وموسى والخضر. وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم، واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافًا. خصوصًا من المقلدين. وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليه السلام. وهذه فائدة نفيسة جدًا، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع، كما هو دين القرامطة والزنادقة. وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]. وقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]. وكيف يستنكر اختلاف الْإِنْسَاْن الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفته: أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه، والإيمان بالغيب في تأويله. ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز.
أما الأمر الأول: وهو اختلافهم في ماهيتهما. فمنهم من قال: المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى. فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي، وما عداه متشابه، وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية. ومنهم من قال: المحكم ما كان إلى معرفته سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال، نحو قيام الساعة، والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش، وخزنة النار. ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة. ثم اختلفوا فمنهم من قال: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة، ومنهم من قال: المنسوخ. ومنهم من قال: القصص والأمثال. ومنهم من عكس فقال: المحكم آيات مخصوصة، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه، إلى غير ذلك- حكى الجميع الإمام يحيى في الحاوي واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي، والمتشابه به: ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد، مثل قيام الساعة والأعداد للمبهمة. وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجهًا آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه، مثل خلق أهل النار، وترجيح عذابهم على العفو، مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء. والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلًا له، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر، فإن قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]، صريح في ذلك، وهذا مراد في الآية، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك، وهم لا يبتغون علم العاقبة، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد، وما يؤول إليه، على ما فسره الشيخ. فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان، إنما يستقبحون شيئًا من الظواهر بعقولهم، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه، والذي وضح لي في هذا وضوحًا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور:
أحدها: أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصوير والتفصيل، أو على جهة الإحاطة على حد علم الله، كلاهما باطل، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، ولقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها. ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله، والأمر في التفكير في آلاء الله، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه، حتى رواه عنه الخصوم. ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عز وجل على العقول: امتنع منها بها، وإليها حاكمها. ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه. ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء، الجميع، ومهم الباطنية، ودونهم الجهمية. ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض. فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أُتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون. ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا. فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم، فطلبوا العلم من غير مظانه، بل طلبوا علم ما لا يعلم، فتعارضت أنظارهم العقلية، وعارض بعضهم بعضًا في الأدلة السمعية. فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات، ويدعون فيها ما ليس من التشبيه. والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعًا إلى التشبيه، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة. والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار، والاقتداء بالسلف الأخيار، والاقتصار على جليات الأبصار، وصحاح الآثار. وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم: أن رجلًا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبًا؟ فغضب عليه السلام ونادى: «الصلاة جامعة» فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله: فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته، وطول ولههم إليه، وتعظيم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوت قدرته، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم، وهم من ملكوت القدس كلهم. ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا أنك أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته. فأتم به واستضئ بنور هدايته، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها. فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه، فإنه منتهى حق الله عليك. وقد روى السيد في الأمالي أيضا الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ستكون فتنة»! قلت: فما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم،فهو الفاصل بين الحق والباطل، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله» إلى قوله: «من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم». ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ورواه ابن الأثير في الجامع عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث، متلقى بالقبول عند علماء الأصول، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه، لبيانهم فيها، على زعمهم، المحكم من المتشابه. فمنهم من صرح بذلك وقال: إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى، وكتبه أهدى من كتب الله، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون، وقيل: لم يصح عنه. ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به. فهذا الأمر الأول من المتشابه، وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى، وما يؤدي إليه.
الأمر الثاني: من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء. وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه، من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير، فالخلق كلهم كالشجرة، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة، وإليه الإشارة بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة، قال الله: كفّ عن عبادي، إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث: إما أن يتوب فأتوب عليه، أو يستغفرني فأغفر له، أو أخرج من صلبه من يعبدني- رواه الطبراني-.
وقال الإمام الغزالي في كتاب العلم في الإحياء في أقسام العلوم الباطنة: ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرًا ببعض الخلق، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش، وكما يضر ريح الورد بالجعل. وكيف يبعد هذا، وقولنا: إن كل شيء بقضاء من الله وقدر- حق في نفسه، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه، ونقيض الحكمة، والرضا بالقبيح والظلم. وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك. وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزًا، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم.
وقال في شرح أسماء الله الحسنى في شرح الرحمن الرحيم: والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيرًا، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين، فإنك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شرًا محضًا. والغبي الذي يرى القصاص شرًا محضًا، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول، وأنه في حقه شر محض، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله. هذا أو قريب من هذا.
وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في العواصم والسر في ذلك: أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرًا قطعًا، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات، فهذا هو سر القدرة في الجملة. وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى، وهم غلاة الأشعرية، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه، ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر، ونفي قدرة العباد واختيارهم، ومنهم من جمع بينهما. ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم، وهم جمهور المعتزلة، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزًا، ويسمونه غير مقدور. ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب، وهم غلاة القدرية، نفاة الأقدار. وقد تقصيتُ الردود الواضحة عليهم، والبراهين الفاضحة لهم في العواصم، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه، في علمي. فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثًا، من غير الآيات القرآنية، والأدلة البرهانية. وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخرويّ، وتبعه تلميذه ابن قيّم الجوزية، وبسط ذلك في كتابه حادي الأرواح إلى ديار الأفراح، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدت عليه. ومضمون كلامهم: أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شرًا، بل لابد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى. وطردوا ذلك في شرور الدارين معًا. ونصر ذلك الغزالي في شرح الرحمن الرحيم.
ولنورد في ذلك حديثًا واحدًا، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول: قال البيهقي في كتابه الأسماء والصفات عن عَمْرو بن ميمون، عن ابن عباس: لما بعث الله موسى وكلمه قال: اللهم! أنت رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما افعل، وهم يسألون. فانتهى موسى.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني، وزاد فيه: فلما بعث الله عزيرًا سأل الله مثل ما سأل موسى، ثلاث مرات، فقال الله تعالى له: أتستطيع أن تصرّ صرة من الشمس؟ قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح؟ قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور؟ قال: لا. قال: فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه، أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء، فلا تذكر فيهم. فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك، كموسى، وأجيب عليه بمثل ذلك، وقال الله تعالى: لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، فجمع عيسى من معه فقال: القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه.
وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر؟ فقال: وجدت أطول الناس فيه حديثًا أجهلهم به. وأضعفهم فيه حديثًا أعلمهم به، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد فيه نظرًا ازداد تحيرًا. قلت: ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]. والجواب الجملي عليهم كما مر.
وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث، رجال بعضهم ثقات، وبعضها شواهد لبعض، كما أوضحته في العواصم وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك، يكفي المنصف. وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة.
الأمر الثالث: من المتشابه: الحروف المقطعة أوائل السور، فإن الجهل بالمراد بها معلوم، كالألم والصحة، والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة، ونحو ذلك ضروري، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابًا من كتبه الكريمة، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم، ونحو ذلك، وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام، والقاسم والهادي عليهما السلام، وهو نص في تفسيرهما المجموع. وكذلك الإمام يحيى عليه السلام، ذكره في الحاوي. وقولهم: إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها؛ مقلوب.
وصوابه: أن لا نفهمها، فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها. وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن.
الأمر الرابع من المتشابه: المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه، أو لغرابته، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع، أو غير ذلك. فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام، كيف لغيره؟ وذلك قوله:: {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ أنه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 45- 46].